رومانسية الممالك الثلاث


يحكى أن: في أواخر القرن الثاني الميلادي, انخفضت السلطة المركزية والإدارية لأسرة هان الإمبراطورية الصينية. نتج عن هذا الضعف اضمحلال الإمبراطورية وتأسيس الممالك الثلاث الشهيرة. في الشمال كان يحكم كاو كاو مملكة وي, في الغرب كان يحكم ليو بي مملكة شو, في الجنوب الشرقي كان سون شيوان يحكم مملكة وو. في العام 208 شن كاو كاو هجوماً ضارياً ضد مملكة شو. لم يواجه كاو كاو بمقاومة تذكر من قبل حاكم المملكة ليو بي. قام باحتلال أغلب المناطق الرئيسية وأجبر ليو بي على الانسحاب إلى منطقة تدعى شيا. بعد هذا الهجوم الكاسح من قبل كاو كاو أجبر ليو بي على إقامة تحالف مع سون شيوان حاكم مملكة وو لمواجهة كاو كاو.

وجد كاو كاو نفسه في موقف لا يحسد عليه. معظم قواته, والتي تعتبر الأكبر بين الممالك الثلاث من الشمال ولا يعرفون أصول المعارك البحرية بعكس مملكة وو التي تعتبر القتال البحري اختصاصهم الرئيسي والمهم في أي انتصار سيتحقق على قوات كاو كاو. إحدى أكبر المعضلات التي واجهت كاو كاو في البداية هو دوار البحر الذي أصاب جنوده. إذا كان الجنود يقاتلون في البر, لما لا يحول البحر إلى أرض برية. عبر هذا الجنون يقرر كاو كاو ربط معظم السفن بسلاسل حديدية لتصبح جزيرة عائمة متحركة يتحرك منها الجنود بكل يسر وسهولة. كل شيء في صف كاو كاو: الجزيرة العائمة التي أصبحت مثل أرض برية يسهل القتال عليها, والرياح الشمالية الغربية التي كانت في صالحه.


ولكن, عند البداية الحقيقية للمعركة تهب فجأة رياح جنوبية شرقية تقلب أساس المعركة وتنسف مخططات كاو كاو: الخبير في أمور البر ليس بالضرورة أن يعرف أصوات الطبيعة التي هي ضرورية للقائد البحري. قد تكون الرياح شيئاً عادياً في البر, لكن في البحر هي أهم ركن من أركان الحرب: هي جنرال خفي يخدم في حضرة من يصاحبهم تجاه الطرف الآخر. أصبحت الجزيرة العائمة شراً بدل أن تكون عاملاً مساعداً في تقوية شوكة قوات كاو كاو. عشرة قوارب صغيرة تسير نحو معسكرات كاو كاو بسرعة كبيرة تحت تأثير الرياح. عندما اقتربت هذه القوارب الصغيرة من مقدمة قوات كاو كاو اشتعلت فجأة فيها حرائق شديدة واقتحمت مجموعة السفن الكبيرة المربوطة في معسكرات كاو كاو, حتى اشتعلت النار بسرعة فى الأخيرة، وأحاطت بمعسكرات كاو كاو بأكملها. صُدم كاو كاو من انقلاب الموازين المرعب. هرب تاركاً السفينة إلى البر بسرعة هروباً من الموت. وهكذا حققت قوات التحالف نصراً عظيما على قوات كاو كاو. أصبحت تلك المعركة خالدة متى ما ذكر تاريخ الممالك الثلاث الصينية, ومعروفة في الصين والعالم أجمع باسم معركة الجرف الأحمر.

قبل خمسة عشر سنة بالتحديد كانت هذه القصة – صراع الجبابرة – هي أجمل ما شاهدت على شاشة التلفاز. عندما كنت في العاشرة كنت مغرماً بمشاهدة المسلسلات الكرتونية القديمة. اختفت هذه المسلسلات الآن ولم يعد لها صدى, ولكن, بالنسبة لمن عاش وشاهد الروائع التلفزيونية القديمة لن يتناسى روائع الفن الياباني المعاصر الباقي في ذاكرة من هم في سني بالتحديد. كانوا أبطالي هم الأصدقاء الثلاثة: ليو بي, وزانغ في و جوان يو. ثلاثة رجال أقسموا ذات مساء تحت ظلال شجر الدراق أن يخلصوا الصين من الظلم وأن يحاربوا العدوان ويكونوا مملكة يسودها العدل والحب والوئام. أحد الرجال الثلاثة هو ليو بي وهو من سلالة هان، وسرعان ما يرتقي في المناصب ليحاولَ استرجاع مملكة هان، وزانغ في وهو سكير عربيد ولكنه طيب القلب ورابط الجأش، ثم أخيراً جوان يو الشخصية الأشهر في القصة والتي تعتبر في الصين بمثابة الإله، وهو ذو اللحية الطويلة السوداء، وصاحب الرمح الطويل. كان كاو كاو بالنسبة لي القائد الأكثر شراً وتوحشاً على الإطلاق. وفي الأدب الصيني الكلاسيكي يتم تصويره كجنرالٍ مخادعٍ ومحتال. وكذلك يُعتبر في رواية رومانسية الممالك الثلاثة شخصيةٌ محتالة وشريرة. ليو بي في مواجهة كاو كاو. لهما غاية يريدان إدراكها. كل واحد منهم يريد توحيد الصين على طريقته الخاصة بعد أن تمزقت إلى ممالك كثيرة كبيرة وصغيرة. لم أتأثر في يوماً ما بأي مشهد تلفزيوني. ولكن: في أحد مشاهد هذا الفيلم بالتحديد, هنالك مشهد أتذكر أني حزنت حزناً شديداً بعد أن شاهدته. والآن, بعد مرور خمسة عشر سنة من مشاهدة أولى لا زال هذا المشهد يعبث بي ويقدم لي صورة سينمائية فنية خالصة لا أتوقع في يوم من الأيام أن يأتي مشهد آخر ليقارعه في القوة والحبكة. المشهد هو مقتل لي هوا زوجة ليو بي في قلعة زوجها. اقتحم سون شيوان حاكم مملكة وو قلعة تابعة لـ ليو بي وعاث فيها فساداً. كان هدف سون شيوان أكبر من احتلال قلعة ليو بي, كان يريد أخذ زوجة ليو بي التي هي شقيقته. لكنها رفضت. لن تترك قلعه عهد إليها زوجها بحمايتها, واندلعت النيران في القلعة.

كانت تتخيل والدموع في عينينها زوجها في وسط النار وهو ينادي عليها. ويجري عليها وهي تجري عليه بالثياب التي كانا يرتديانها في أول لقاء لهما. كانت تتمنى أن ترقص لزوجها ولكن القدر لم يمهلها. اندلعت النيران بشكل أكبر واحترقت القلعة ولم تخرج لي هوا بإرادتها. بل جلست فيها, تنتظر زوجها وسط اللهب. وراحت تتخيل نفسها ترقص لزوجها رقصه السيف الشهيرة. كنت أظن أني الوحيد الذي يعترف بجمال هذا المشهد ودرجة تأثيره. قمت بالبحث عن قراءات لهذا العمل ووجدت الجميع, أو بمعنى أصح أغلب من شاهد هذا العمل أحب هذا المشهد وأحدث فيه التأثير الذي أثر فيّ.

بعد خمسة عشر سنة من المشاهدة الكرتونية تغير الشيء الكثير, ولدي أسئلة لا أملك إجابة عليها الآن, وقد أجدها عند قراءة رومانسية الممالك الثلاث. في منتصف السنة الماضية صدر فيلم الحافة الحمراء للمخرج جون ووه. كنت متحمساً للفيلم لأني سأشاهد شيئاً أعرفه جيداً – الممالك الثلاث – ومعركة الحافة الحمراء والتخطيط العبقري والجنوني للتنين النائم جوكيه ليانغ, والذي كان كبير المخططين الإستراتيجيين وصاحب أفكار عبقرية لا تخطر في بالي أي قائد من قادة الممالك الثلاث.

عند مشاهدة الجزء الأول الذي صدر في 2008م, قلت: الخلود عبر الفن, هذه الجملة تختصر حالة هذا الفيلم التاريخية والفنية. شخصيات الفيلم الشهيرة الثلاثة ظهرت كما كان تصوري عنها مسبقاً: الجنرال زانغ في بصرخته المرعبة قادر على شق صفوف العدو. تبدو هذه الشخصية لأول وهلة بأنها عدوانية وشريرة, ولكنها تحمل طيبة قلب كبيرة مليئة بحب الفقراء, والقتال والتضحية من أجلهم. الشخصيات الأخرى ظهرت بشكل لم أكن أتوقعه. تم تقديم شخصية الجنرال جوان يو بشكل مذهل يدعو للإعجاب. جوان يو: ذو اللحية الطويلة السوداء، وصاحب الرمح الطويل المرعب. والتي تعتبر في الصين بمثابة الإله. آخر شخصية وهي التي أثارت اهتمامي هي شخصية الجنرال ليو بي: لم أكن أتوقع أن تظهر هذه الشخصية بمثل هذا الضعف. أعتقد أن المخرج استعان بشخصية الحكيم المشهور صاحب ليو بي في القصة: زوجيه ليانج, للتدليل على ضعفه. فكرة المخرج جوان يوو ذكية جداً. بما أن ليو بي ليس منتصراً, وهو في حالة الحرب تلك من فشل إلى فشل فلا داعي لإعطائه دور مركزي في القصة, وإنما للمخطط والمفكر في معركة الجرف الأحمر.

هناك شخصية أخرى كذلك مركزية استطاع المخرج تقديمها كما يليق, وهي شخصية الجنرال كاو كاو, الرجل العصامي الذي سرعان ما يصبح وزيراً، ثم يقوم بإسقاط مملكة هان. ومن ثم يبدأ الصراع بين ليو بي بمساعدة رجاله الأبطال وكاو كاو برجاله أيضا. جسد شخصية كاو كاو الممثل المخضرم فينجيياي زهانج.

هناك أشياء تغيرت: كان ليو بي هو القائد المفضل لي في مرحلة العشرة أعوام, في الفيلم هو شخصية ثانوية, حتى حاكم مملكة وو سون شيوان لم يكن ذا تأثير حقيقي أو ظهور حقيقي. زج المخرج بنائب حاكم ووه زهو يو كقائد أساسي لمعركة الجدار الأحمر. بما أن الفيلم يتحدث عن حرب ف بالتأكيد سوف يكون الفيلم سريعاً ومليء بالحركة والإثارة. في الجزء الأول تم تقديم مقدمة للحرب التي بدأت تعصف بالجزء الثاني من الفيلم والذي صدر عام 2009م.

في الجزء الثاني أظهر المخرج كاو كاو كرجل يحمل صفات مختلفة, هو شهير كقائد عسكري يبطش بالخصوم, ولكن كما يعرف محبي تاريخ الممالك الثلاث كان كاو كاو شاعراً وأديباًَ وسياسي حذق لا يترك شاردة ولا واردة إلا ويحسب لها ألف حساب. في أحد مشاهد الفيلم – وهو الذي أثار الأسئلة في عقلي – بعد هزيمة كاو كاو, كان كاو كاو يشاهد خريطة الممالك الثلاث. كان يتفاخر بأنه تخلص من أمراء الحرب في كل المناطق, ولم يستطع التخلص من أمراء الحرب في هذه المنطقة فقط. لو تخلص من أمراء الحرب في هذه المنطقة, هل سيعم السلام والوئام الإمبراطورية الصينية من جديد؟ هل كان كاو كاو يطرح نفسه كموحد للإمبراطورية بعكس ليو بي الذي يريد استعادة مجد هان؟ إنها أسئلة كبيرة وليست صغيرة, الإجابة عن هذه الأسئلة يكشف كم هي قوية سلطة الأدب عندما يتولى إعادة كتابة التاريخ من جديد وتقديم رؤية رومانسية قد تكون بعيدة عن الواقع لكن تحظى بشعبية عارمة عند القراء. حتى الرؤية الكونفشيوسية للأحداث كانت تلوم كاو كاو لعدم مقدرته على تحطيم أمراء الحرب وفرض سلطة واحدة للإمبراطورية الصينية. في قصة المكتباتي للأديب عدي الحربش نجد مثل هذا التساؤل كذلك: ” من هي الشخصية الشريرة، و ما هي القوانين التي تضبط إطلاق هذه الصفة عليها؟ هل هو روبن هود الذي يسرقُ لإطعام الفقراء، أم شريف نوتينجهام الذي يحاول ضبط القانون و الإيقاع بهذا اللص الخارج عن العدالة؟ هل هو ليو بي الذي يحاول أن يعيد مجد إمبراطورية هان، أم كاو كاو الذي لا يرى أملاً للبلاد إلا تحت رايته؟ ”

ما أنا متأكد منه الآن والكثير من الأسئلة لا أجد لها أجوبة, أن ليو بي مثل كاو كاو. كان ليو بي يسعى لنفسه مثلما كاو كاو يسعى لنفسه. في فترة ضعف إمبراطورية هان كان كاو كاو هو من أنقذ الإمبراطور رغم تحكمه فيه. أخمد الثورات في الشمال وفرض الأمن وحول المملكة الشمالية إلى مملكة مزدهرة.

شيء واحد كنت أتمنى أن يكون موجوداً بالفيلم: لي هوا. أنا متأكد بأن مؤلف الفيلم الكرتوني أضاف قصة لي هوا من عقله وأبدع فيها إبداعا شديداً بلا شك. في الفيلم تم استخدام لي هوا ولكن بصورة أخرى, عبر زوجة نائب الحاكم والبطل الرئيس الثاني في الفيلم: زوجة نائب الحاكم تشو يو. لي هوا قدمت نفسها لكاو كاو حتى يحقن الدماء, في الفيلم نفي الشيء: قدمت زوجة نائب الحاكم نفسها لكاو كاو حتى يحقن الدماء, ولا مفر من المعركة. وكما يقول كاو كاو: رفعت كأسي وغنيت الأغنية, ولا أعرف سوى كائن واحد, إلهُ الشراب!

* يجب أن أشكر المترجم المميز فيصل الظفيري على براعته وتفانيه في ترجمة هذه الملحمة العظيمة ترجمة تليق بها. في بعض مقاطع الفيلم كان كاو كاو يتحدث شعراً, وترجمها فيصل كما يجب أن تترجم: شِعر.

6/1/2010

هذا المنشور نشر في أدب آسيوي, سينمائيات. حفظ الرابط الثابت.

أضف تعليق