ماذا تقول الأشجار؟

نُشِرت في فكر و فلسفة, مقالات, تولستوي | تعليق واحد

كيركيجارد وسر «خوف ورعدة»

أتشرف بقراءتكم لأحدث المقالات التي نشرتها مؤخراً، ضمن منصة معنى الالكترونية

نُشِرت في فكر و فلسفة | أضف تعليق

وردة سبينوزا

Spinoza


كانت الوردة اسماً، ونحن لا نمسك إلا الأسماء.
برنارد دي مورلي.

(1)
كيف ستكون الحياة بعد كل ما حدث؟ وعلى ماذا سأعيش! هذه هي المهمة الأولى التي يجب أن أعطيها كل اهتمامي الأيام القادمة..لا، ليس هكذا .. أعتقد بأني طرحت السؤال بصورة خاطئة. لا، يجب صياغة السؤال بصورة متوافقة مع الواقع والمنطق وبما يتوافق مع العقل، لن تكون الحياة هي من ستواجهني، بل ما الذي سوف أقدمه في هذه الحياة. ما الذي تتوقعه الحياة مني! لن أكون متلقياً، بل سوف أصنع الفعل الذي سوف يحدث تأثيراً. سأفكر وأكتب بحرية، ساٌطلق عقلي ليتجول في الفضاءات كما أراد. سأتخذ لنفسي صنعة أصنعها بيدي بما يكفيني لأن أعيش حياة طيبة. دفعت ثمناً غالياً مقابل حرية هذا العقل. دفعته بطيب خاطر وبدون تردد. أصبحت فرد وحيد مقابل هذا المجموع الهائل، رائع! .. هذا ما سوف تواجهه الحياة مني!

(2)
بدأ المساعدون والطلاب بالخروج تباعاً من غرفة الحاخام الرئيسية في كنيس أمستردام. اصطفوا على جنبات الطريق المؤدي لإلقاء الخطبة المنتظرة، وكأن قائداً عظيماً سيخرج معلناً نصره المدوي على أعدائه. بمجرد ما لاح ظل رجل طويل يغطي أرضية باب الغرفة، قام الحضور بالانحناء لتحية الحاخام شاؤول مورتيرا الذي دخل الباحة الرئيسية للكنيس. لم يكن ملكاً، لكن سلطاته تناهز في تأثيرها سلطة ملك. لم يكن بحاجة للحديث وطرح الآراء حتى يثبت وجهة نظره. كان ينظر في عيني محاوره، فيصيبه بالرعب، وكأنه اكتشف كل خبايا روحه. شخص واحد فقط تطلع لعيني الحاخام ولم يخف. كان على استعداد لكشف كل ما يخفي داخل عقله وروحه؛ شخص كان يقدس الحرية وكأنها قضيته الشخصية. وكانت تلك الحرية مكلفة للغاية.

وقف الحاخام لإلقاء خطبته في ذلك اليوم الذي سجل في التاريخ. لم يكن يوم صلاة، ولم يكن ذلك اليوم يوماً عادياً. كان يوماً لا يتكرر. ذُهل مورتيرا لعدد الحضور. لم يكن يحلم يوماً ما بأن يكون عدد حضور الكنيس بمثل هذا العدد. احتل رجال الدين أمكنتهم في الصفوف الأمامية، تبعهم الطلاب والأهالي ومجموعة من المتدينين واللصوص والمرابين والتجار. تطلع إلى الحضور بعينيه، ليتأكد بأن الجميع سينصت إليه، وبدأ حديثه للجمهور بشكل مباشر دون أي مقدمات:

“حُكم علينا بالضياع لكننا نجونا. قاموا بإجبارنا على تغيير ديننا والتبرؤ من تاريخنا، لكننا تمسكنا بحقنا وبديننا وتاريخنا. واجهنا الفناء وأصبحنا خالدين. الموت يترصدنا بلا رحمة، لكننا عازمين على الاستمرار بالمواجهة. اتحادنا وعدم اختراق وحدتنا كانت السبب الأساس لأن نستمر ونعيش ونقاتل، حتى نحصل على حقنا بالعيش في أرضنا المقدسة. ذلك الحلم الذي طال انتظاره منذ أن تشردنا على وجه هذه الأرض. اليوم نجتمع لنلعن نبتة خبيثة نشأت بيننا، كائن بشري ملعون حاول أن ينسف أسس ديننا وتراثنا العظيم، وكأننا جدار قصير سهل اختراقه. لا.. ذلك لن يحدث في عهدنا وحق الله الذي خاطب موسى. إن من نجتمع بشأنه اليوم هو ابني! هو ابن العزيز ميخائيل رحمه الله، أكبر متبرع وداعم لهذا الكنيس وهذه الطائفة العظيمة. أحب هذا الولد. كنت أراه هبة من الله، جاءت لتجدد لنا حضارتنا وتاريخنا وتنشر ذلك في الآفاق. شاب لديه من القوة لأن يقف أمام أعتى العقول ليطيح بها. كان قوة هائلة نعدها لأن تحارب كل من يقف في طريقنا. لكنه بدل أن يقف معنا، خرج علينا بتلك الهرطقات والأفكار الشيطانية. أقسم لكم بكل ما هو مقدس أن الشيطان لو وقف أمامه لخجل من ضعفه مقابل تلك العواصف التي يلقي بها ذلك الشاب، هذا الفتى الذي لا أريد حتى التلفظ باسمه. لقد صدر اليوم وبالإجماع قرار الحِرْمَ بحقه. وإني على يقين بأن كل من يسمع بهذا القرار سيطيعه ويقوم بتنفيذه. أكرر لكم القول مرة أخرى، لأكون صادقاً معكم ومع نفسي: من نتحدث عنه ليس شخص غريب، بل هو ابني.. وأقسم بأن من يحاول أن يتبع أثره أياً كان منصبه وقوته، سيواجه مثلما واجهه هذا الملعون.. تعال يا افرايم، تعال يا بني وقم بإعلان القرار.. ليكون صوتك عالياً حتى تسمعك الملائكة في السماء!”

اقترب طالب متوسط القامة ذو صوت جهوري قرب الحاخام وقرأ من ورقة صفراء ذلك القرار الذي يحمل الإلغاء والنفي والموت: “بعون من حُكم القديسين والملائكة، نقوم بإقصاء وملاحقة ولعنة وكراهية باروخ سبينوزا بموافقة كل الجماعة المقدسة، وبموافقة كتبنا المقدسة والقوانين الـ 613 التي تتضمنها. إننا نصوغ هذا الحِرْمَ مثلما صاغه يوشع ضد أريحا، ونلعنه بكل اللعنات المذكورة في الشريعة. اللعنة عليه في النهار وفي الليل، اللعنة عليه في منامه وفي يقظته، وفي دخوله وفي خروجه. اللهم لا تغفر له أبداً، اللهم صب عليه جام غضبك وانزل به كل الشرور المذكورة في كتاب الشريعة. فليمح اسمه من هذا العالم وإلى الأبد، وليشأ الله أن يفصله عن كل قبائل إسرائيل بأن يسلط عليه كل اللعنات التي تتضمنها الشريعة. أما أنتم يا من ظللتم متشبثين بإلهكم الخالد، فليطل الله في أنفاسكم لتعلموا أنه عليكم ألا تقيموا مع سبينوزا أي علاقة كتابية كانت أو شفهية، وألا تقدموا له أي خدمة، وألا يقترب أحد منه بأقل من أربعة أذرع أو أن يعيش معه تحت السقف نفسه أو يقرأ ما يكتب.”

كان مورتيرا ينظر إلى الجالسين في الصف الأول بتمعن وهم يستمعون لهذا القرار. كان الكل مؤيداً وبقوة لهذا القرار الذي لم يواجه أي معارضة. ركز على الصف الأول مرة أخرى ليتأكد من أن كل رجال الدين المهمين موجودين. تمتم في نفسه متسائلاً: “أين أبراهام!.. كان يجب أن يتقدمنا!”

(3)
أقفل باب منزله بهدوء. سمع صوت الباب وهو يُقفل. لأول مرة يشعر برغبة في سماع صوت الباب. لم يخطر في تصوره بأنه ذات يوم سُيجبر على مغادرة هذا البيت الذي ولد وتربى فيه بصورة نهائية. لقد أصبح ملعون في هذا الحي، أصبح ملعون في المدينة، أصبح ملعون في نظر الطائفة والعالم. حتى أقرب المقربين إليه؛ أخيه وشقيقته، لن يستطيعوا أن يمدوا إليه ولو بقايا خبزة، أو يتحادث معهم، أو ينظر إليهم.

أغلق الباب حاملاً أمتعته الخاصة القليلة: كتبه الأثيرة، وبقايا ذكريات من والديه. كان يُعرف منذ الصغر بأنه يمتلك ذاكرة حادة. لكن عندما أغلق الباب هذه المرة، امتلك ذاكرة لا توازيها أي ذاكرة من قبل، ذاكرة تجاهد في استيعاب الروائح والأماكن والبيوت والطريق الذي سيسير عليه للمرة الأخيرة.

نزل من عتبة الباب، كان الأطفال يركضون ويلعبون في الأزقة. لأول مرة منذ فترة طويلة تُغلق المتاجر التي كانت عامرة، وغاب الرجال الذين كانوا يمارسون التجارة. ذهبوا لاجتماع لم يُدعوا له، لكن الاحتفال بالموت والكراهية وحدهم ودفعهم دفعاً للاحتفال بطقوس الإقصاء والنفي.

عندما كان يذهب لمتجره كل صباح، كانت عيناه تتطلع للأسفل، يتابع وقع خطواته، مفكراً في بناء هندسي يضم العالم بأكمله، عالم يضع الكائنات والفضاءات واللانهائيات في تصميم واحد يقود الانسان للغبطة. لم يفكر باللامعقول والمستحيل، كان يفكر بالممكن والواقع. هذه المرة لم يعد يفكر. لم يعد يتطلع للأسفل. أصبحت عينه تتطلع للأفق والسماء. السحاب يسبقه، يسير معه في اتجاهه. ما أروع أن يهجرك قومك وتسير معك السحب، في اتجاه يقود للسلام، للأعلى.

وصل إلى محل الاستيراد والتصدير الذي ورثه من والده. توقف متطلعاً في جدران المحل والبضائع المتكدسة أمام المحل. كان يعمل في هذا المحل مع أخيه حتى الأمس. محل قد حقق نجاحاً في الماضي، لكن الكساد أصاب تجارتهم. في هذا المحل تعلم لغات عديدة. في الركن القصي منه كان يجلس لساعات طوال، محدقاً في العهد القديم و التراث والأساطير. كان جسده محصوراً في ذلك الركن، لكن عقله يجوب التاريخ، مخترقاً الزمن. من ينظر إليه يشعر بأنه ممسوس، ليس له وجود حي في ركنه. كان زوار المحل يتبضعون ويجدون الشاب منكفأ على نفسه. كان يفكر، يكتب، واضعاً كل تركيزه على ما يجاهد في تفسيره. من يتطلع إليه يظن بأنه يحاول إيجاد حل للعجز المالي أو إيجاد تفسير لتناقص دخل المحل، لكن عقل الشاب كان محلقا، كطائر يجوب الآفاق.

كان الجو جميلاً، رغم سماء الكراهية واللعنات التي تغطي سماء المدينة. النسيم الذي أحدثه المطر صباح اليوم أصابه بالسكينة. وهو يسير في طريقه شاهد ظل إنسان يتتبعه. يسمع وقع خطواته. تفاجأ بوجود إنسان آخر في ذلك الشارع سواه. هل هناك إنسان طبيعي أخيراً لا يشارك في حفلة الكراهية؟ أم أن هذا الشخص الذي يتبعه ينتمي إليهم، يطارده ليقضي عليه. التفت للخلف، فإذا هي سيدة كبيرة في السن تجاهد في سيرها.

“هل أساعدك بشيء يا …”
قاطعته مباشرة: ” أرجوك يا بني.. احمل هذه الأغراض عني حتى أصل بسرعة لبيت أبراهام”
لم تنتظر العجوز إجابة سبينوزا على تساؤلها، بل ألقت بما تحمل إليه، ووجد نفسه مجبراً على حمل هذه الأغراض والسير معها إلى بيت أبراهام. كانت العجوز تسير وهي تلعن كل رجال الحي، “الملاعين” كما وصفتهم. لم تجد فيهم أحداً يساعدها لتصل بيت أبراهام بسرعة.

” إنها مسألة حياة أو موت يا فتى.. مسألة حياة!”
أجبرته على السير معها وهو لا يعلم إلى أين هو ذاهب وأين هو منزل أبراهام هذا. كان وجهها جميلاً، يحمل لطف الأمهات وحنان الجدات. كان الطريق منحدراً، يسهل السير فيه بكل أريحية. استقام الطريق أثناء السير، وتجمع في أرضيته بقايا مطر الصباح. حتى يصل إلى بيت أبراهام كان عليه أن يرتقي ذلك المرتفع القصير. كان ذلك صعباً على السيدة؛ أن تسير بمفردها حاملة معها هذه الأغراض.

“أين هم عليهم اللعنة. ألا يقدرون أن مثل هذه الأمور تحدث فجأة، وأن التأخر في هذا الأمر قد يفضي لأن ترحل روح بريئة! يقولون بأنهم مجتمعون في الكنيس واليوم ليس يوم صلاة، ما الذي حل بأرواح هؤلاء الملاعين .. ها.. هذا هو.. أخيراً، وصلنا.. ناولني ما تحمل يا فتى.. ليبارك الله فيك يا بني”

لم يستطع سبينوزا تفسير ما حدث مع السيدة ولم يفهم مسالة الحياة والموت التي أشارت لها. لكن دعوتها كانت مثل قطرات مطر أنعشت روحه العطشى. أصابت روحه. مد يده اليمنى لتقبض يد السيدة العجوز. ساعدها في صعود باب منزل أبراهام، ووضع الأغراض في متناول يدها الأخرى لتحملها. كانت ستنطلق لدخول الباب. لولا أن اليد التي ساعدتها بالدخول كانت ممسكة بها، لا تريد تركها. تطلعت إليه برعب وهو لا يزال ممسكاً بيدها. مسك كف يدها بيديه الاثنتين وكأنه يتبتل بمحراب. انحنى على تلك اليد وقبلها مثلما يقبل الابن يد والديه بحب هائل بعد غياب، أو كما يقبل العاشق يد محبوبته الاثيرة. ظل ممسكاً بها، مقبلاً اليد، وهو مغمض العينين.

” ما الذي أصاب هذا الفتى! أي ألم هائل يعانيه! أيكون قد فقد عزيز لديه! أيكون يعاني من شيءِ ما ولم يفصح عن هذا الأمر لأحد…. عيناه رقيقتان، تقاسيم وجهه تعطي صورة عن روح عذبة”

قامت السيدة بمسح رأسه، وكأنها تخفف عنه آلام حزنه. أصابع يدها اليسرى قامت تتحسس جبهته وشعره الطويل، تقبض عليه وكأنه تخفف ألمه. عندما ترك يدها، لم تكن يدها مغطاة بقبلة الشاب وحسب، بل وترك دمعة من عينه على يدها.

استدار سبينوزا ليكمل مسيرته الأخيرة في الحي. عندما استدار لم يستطع أن يتقدم لخطوة. كان يشاهد على جنبات المنزل الذي دخلته العجوز مجموعة متناسقة من الورود والأزهار ملحقة بمنزل أبراهام. كان يعرج على هذا المكان عند عودته للمنزل كل مساء، ولم يشاهد أبداً ما يشاهده الآن من روائح عطرة وأشكال تسر الناظرين. هذه المرة اكتسب المكان حلة لم يعهدها من قبل. روائح وصور وأشكال تصيب قلب الناظر بحب الحياة. تساءل باستغراب: أين كانت عينيه عن هذا المكان من قبل؟ أكانت هكذا كل يوم ولم ينتبه لها مسبقاً؟ هكذا هي الحياة، نعم، هكذا هي دائماً؛ لا تفصح عن جمالها إلا عندما نبدأ بفقدها.

بدأ يتطلع إلى تلك التشكيلة المتناسقة من الورود. ومع بقايا الندى الذي أحدثه مطر الصباح، اكتسبت الورود والنباتات المحيطة بها جاذبية هائلة. لكن ما أثار انتباهه بصورة كبيرة وردة حمراء تظللها شجيرات نبتة قريبة منها. كان الجزء الأيمن من بتلات الوردة تحت الظلال، والجزء الآخر منه مضيئاً، وكأن هذه الوردة ذات لونين، ليس لها وجود على هذه الأرض إلا في ذلك المكان وتلك اللحظة. قام بحمل النبتة التي تٌظل الوردة لمسافة بعيدة، حتى يرى هذه الوردة الجميلة بذاتها، مستقلة عن الآخريات. ما إن قام بتحريكها لمسافة قصيرة حتى انعكس ضوء الشمس على عينيه، وكأنها تخاطبه. لم يفتنه اللون الأحمر من قبل. هكذا كان يظن، لكن ما إن قام بالتحديق بذلك التناسق الإلهي حتى أصابته رعدة. لم يعد يرى الوردة، كان يرى شفتي كلارا- ماريا في تلك الوردة. كانت كلارا تعلمه اللغة اللاتينية ومسرحيات تيرانس في منزل المعلم فرانسيسكوس فان إندن. أخطأت يوماً في نطق كلمة، فابتسمت ابتسامة عذبة فجرت عواطفه الداخلية. لم يحب امرأة من قبل، ولم يرى فتاة تحمل من العلم والعقل ما تواجه به الرجال أمثاله. تلك الابتسامة في ذلك العقل العظيم كانت الاستثناء الذي لا مفر منه.

مد يده ليحمل الوعاء الذي يحمل الوردة، يريد أن يتنفس رائحتها، ويقبل ذلك الأحمر الفاتن. استنشق رائحة الوردة، وكأن هذه الرائحة هي الأخيرة التي سيحتفظ فيها في ذاكرته من هذا المكان. أصابع يديه تلمست بتلات الوردة. وكأنه يحاول لمس ذلك الجسد، جسد كلارا- ماريا. كان يتلمس كائن نباتي جميل، لكن روحه كانت هناك، في ذلك المكان الذي شع فيه وجه كلارا بتلك الابتسامة. أراد أن يقطف الوردة ليأخذها معه، ستكون تذكاراً رائعاً.. بدأت يده تأخذ قوتها ليقطفها بكل قوة، ولم يقف حائلاً بينه وبينها إلا ذلك السعال من رجل كبير في السن جالس في زاوية المكان. لم يكن ذلك سعالاً من أبراهام، كان كبيراً في صحة جيدة، لكنه أراد تنبيه هذا الزائر بألا يقطف الوردة.

“أعجبتك حنا أيها الفتى ها!”
“حنا..!”
خفق قلبه عندما سمع هذا الاسم. لم يسمع أحداً يذكر هذا الاسم من مدة طويلة، بل إن ما يحمله في رحلته الأخيرة هو بقايا ذكريات من والدته حنا ووالده ميخائيل. سمع الاسم وتراء له وجه والدته الوديع.

“نعم حنا.. هذه الوردة التي تحمل! حنا هي الملكة. ما من زائر يرى حنا حتى يذهب عقله بعيداً.”
” هل أسميت هذه الوردة حنا حقاً؟”
“نعم .. اسميتها حنة. على اسم زوجتي الراحلة. هي صاحبة الفكرة في إنشاء هذا المكان. كانت ترعى كل النباتات والورود بكل حب وكأنهم أبناءها. ليتها كانت معنا الآن. تخيل أن لديها قصة لكل نبتة ووردة من هذه النباتات والورود، إلى درجة أنها أطلقت لكل وردة اسم خاص بها. وكل اسم له تاريخ وذاكرة، كأنهم بشر! ذات يوم استلقيت في هذا المكان. أصابتني الغفوة، فاتخذته مكاناً أنام فيه. تخيل أن تنام في حديقة! يا للروعة! لكن، ما شاهدته في الحلم وأنا نائم كان مدهشاً كل الدهشة!”
” ما الذي شاهدت؟” سأل سبينوزا هذا السؤال وهو غير مصدق بأن هذا الرجل انطلق يتحدث بأحاديث خاصة مع رجل غريب يراه للمرة الأولى.

” لا أعرف يا بني كيف أصف لك ما حدث. قد يكون حدثاً عادياً ليس له أهمية لديك، بل ربما أحدثك بما جرى وتقول بأن هذا الرجل أحمق ولا يفقه شيئاً.. لكنه بالنسبة لي، هو حدث عظيم. اسمعني جيداً. إذا انشغل عقل المرء وقلبه بإنسان ما، فإنه سيراه على الدوام، سيراه في أي حدث جميل، وتظل ذكراه تحيط بعقله. فكيف إذا أصبح قلبك يغمره شعور عامر بالحب لفتاة قد عشت معها هذه الحياة وتركتك لوحدك تُكمل مسيرة الحياة حتى تنضم إليها لاحقاً بعد الموت”

” لكل إنسان ذكرياته وتجاربه الخاصة سيدي”
” نادراً ما أحلم.. من فترة طويلة لم أر أحداً في الحلم. أتمنى لو أرى زوجتي في الحلم كما أعرفها وعشت معها لخمس وثلاثين سنة. لكن ذلك اليوم وأنا نائم في الحديقة هنا، رأيت ابنتي آستير في الحلم، وهي متدثرة بمعطف زوجتي حنا. كانت تجلس أمامي وهي تتدفأ بمعطف والدتها، غطت كل جسدها، وكان وجهها ظاهراً لوحده. كان وجهها عذباً ورقيقاً. لكن قطرات من الدموع كانت تنساب بصمت من عينيها. كنت أشاهدها، ابنتي تتدفأ بمعطف والدتها المتوفاة، زوجتي! لا أعرف من كنت انظر إليه، هل كانت ابنتي، أم روح زوجتي. وقفت أمام ذلك المشهد وأنا أبكي بخشوع.. لا أخفيك بأني كنت أبكي وشعور الغبطة يغمرني، رغم أن المشهد بكامله يسحقني بحزن شديد. كان في هذا المشهد رائحة حبيبتي. يا إله السموات! شعرت بالتعب من البكاء. أحسست بتعب في روحي من جمال هذا المشهد. استيقظت، وهنا كانت المفاجأة!”

” ما هي؟”
” لم أكن أبكي في الحلم. كانت قطعة القماش التي اتخذتها مخدة مليئة بالدموع.. كنت أبكي واقعاً وحلماً. هل تستطيع تفسير ما حدث؟”
” ليس الأمر بسر حتى أقوم بتفسير ما جرى لك. عاطفتك تجاه زوجتك الراحلة هائلة. خيالك رسم لك حدث غير واقعي، وكأنه واقع ومتناسق مع القانون العام للطبيعة. إن المرء إذا شغله شاغل وفكر مراراً وتكراراً بحدث معين، سيرى في كل حدث عام أو خاص وكأنه متعلق بما يفكر به، بل حتى إذا سمعت يوماً اسم زوجتك سيظهر أمامك حدث لا يراه سواك، وتظن في قرارة نفسك أن ما تراه هو الواقع رغم أنه خيال”

” هذا الخيال أو الحدث غير الواقعي هو ما يمنحني السعادة. بل هو أمل أتعلق به، يستمر معي حتى ارحل واجتمع مع حنا مرة أخرى”
” تقصد بأنك ستقابلها بعد الموت؟”
“نعم .. هذا ما أمله”
” لكن ذلك لن يحدث”.. أجاب بسرعة، وبيقين لا يخامره أي شك.

” ولماذا تدمر الأمل الذي يسكن في عقول البسطاء؟ ما هي فائدة أن تسحق أرواح الناس وتخبرهم بأنهم إذا رحلوا فإنهم لن يلتقوا بأحبائهم من جديد؟ يا إلهي، فكر بهذا الأمر بصورة مغايرة لما اعتدت التفكير به. أعرف بأنك ذو عقل عظيم، تستطيع البحث في كتب التاريخ وتحلل سير الرجال ومعاني اللغات، لكن فكر بقلبك هذه المرة فقط، تخيل.. عندما تأتي حفيدتي الصغيرة وهي تحدثني عن جدتها بكل حب، وتخبرني بأنه سيكون يوم فرحها عندما تحتضن جدتها من جديد، تخيل شعور الأم التي فقدت ابنها، وما إن ترد إلى مسامعها اسم الابن حتى تبكي حباً وشوقاً له. قف أمامهم وأخبرهم بأن أحبائهم الذين يسكنون المقابر لن يروهم على الاطلاق بعد الموت.. صدقني، أنت لن تقتل الأمل في أرواحهم، بل ستلغي من ذاكرتهم وأرواحهم أي قيمة لمعنى الأمل، تلك الهبة العظيمة. ثم كيف تجعل من الإنسان أن يعيش بتلك الحرية العظيمة دون أن تضع أمامهم حاجز يجعلهم يعودوا لرشدهم”

” حاجز؟ ماذا تقصد بالحاجز؟ لم أفهم”؟
” لا تجعل الانسان رافعاً رأسه على الدوام وكأن لا أحد فوقه، نعم .. الكائن البشري حر. ولكن هذا الحر إن لم ينحني، قد يطغى ويتجبر. الحياة مرعبة ومخيفة دون انحناء، دون سجود!.. دعهم هكذا، يعملون لصالح حياتهم الأخرى، سواءً كان واقعاً كما نعرف أو غير حقيقي كما تقول، لا تلغي الأمل.. إن دمرت هذا الأمل قتلت الحب في أفئدتهم”

تمنى سبينوزا لو أنه لم يجب أبراهام بتلك الإجابة. كان يستطيع الرد عليه بكل قوة إلى درجة يفقد فيها إيمانه. لكن ما أثار استغرابه بأنه أشار لعقله، وبأنه عظيم. ها هو رجل من طائفته وجنسه ويرتدي زي الأحبار لا يعنفه ولا يرفضه ولا يلعنه، بل يبوح له بكل مكنونات روحه وكأنه ابنه.

سُمع أثناء ذلك صوت امرأة من المنزل تصرخ صرخة هائلة اثارت انتباههم. صرخة كانت كفيلة بأن تتجه أنظارهم صوب ذلك الصوت الذي انطلق دون مقدمات.
” هل تعرفني؟”.. سأل سبينوزا الشيخ الجالس وصدى صوت المرأة يسكن المكان.
” ليلطف الله بها بروحها ويحيطها بعنايته، آلام الولادة مخيفة” تمتم بذلك أبراهام.

“وهل في هذه المدينة من لا يحتفل بلعنك هذا اليوم؟ نعم، أعرفك.. أنت ابن الرجل الطيب ميخائيل. كنت معجزة في حياتك. وأنت شاب لم يتجاوز الثامنة عشر كنت قادراً على أن تطيح بأقوى العقول وأكثرهم حجة. كنا نتطلع ذات يوم لأن تقودنا، وكانت آمالنا معلقة عليك بأن تكون الحبر الأعظم لنا، ليس في هذا العصر وحسب، بل في التاريخ، لكن .. للأسف هذا ما لن يحدث. أصدقك القول بأني كنت حاضراً في الاجتماع المقرر لإصدار قرار الحرم بحقك. لم يكن هناك أي حاخام يستطيع مواجه شاؤول مورتيرا. تعرف تأثيره المخيف على أنصاره وأتباعه. الحمد للرب بأني لم أشارك في ذلك”

” وكيف لم تشارك؟ قرار الحرم يجب أن يصدر من الجميع، وبالإجماع وبدون معارضة. لن يتركوك، بل وسيصدرون قرار مشابه لك بمثل ما صدر ضدي”
” لطف الله هو من أنقذني. جاءت حفيدتي لتخبرني بآلام والدتها. فخرجت ابحث عن قابلة تساعدها في الولادة. ثم أني ارفض هذا القرار، ليس لأني مؤمن ببراءتك مما نسب إليك. فكل ما ذكر عنك كان صحيحاً. لكني رفضت. ليس لي سلطة الاقصاء، لا أملك هذا الحق. أنت روح خلقها الله. وإني على يقين بأن هدفك سعادة الانسان ونشر روح الخير. لك أفكار مرعبة، وأحياناً أشعر بجسمي يرتعد من أقوالك. ولا أخفيك بأن بعض ما تقول أجد فيه قبول من عندي. لكنك بالنهاية لم تقتل أحداً، فلا داعي من اطلاق هذا الحرم القاسي بحقك”

” أشعر بأن هذه الوردة قد أخذتني لعالم آخر. صدقاً، كلماتك مثل هذه الوردة في حديقة مليئة بالأشواك. ممتن لهذه الروح الخيرة التي تحمل. أنت تعرف بأنه عرض علي راتب سنوي يغطي احتياجاتي مدى الحياة، ولدي الاستطاعة بأن أقبل هذا الراتب السنوي وأصمت ولا أتحدث بما أفكر به. ولكن، فكر بما ستكون عليه حياتي إن أنا قبلت هذه الرشوة. سيعذبني ضميري، سيحطمني صباح مساء إن أنا تنازلت عن مبادئي في التعبير عن رأيي بكل حرية ودون خوف. أنا لا أدعو إلى القتل ولا أبشر بحرب، بل كل ما أعبر عنه هدفه الأسمى أن يعيش الانسان بحرية وكرامة، وأن يصل لتلك الغبطة والسعادة، والتي هي غاية النفس الإنسانية. أن أواجه هذا العالم البشع محتفظاً براحة ضميري ومعبراً عن رأيي بكل حرية دون الاعتداء على حرية كائن بشري آخر، أنا على استعداد لتحمل هذه التبعات. نعم. سأتحمل كل ذلك، شهيداً لمبادئي وحريتي”

جاءت القابلة، السيدة التي سارت مع سبينوزا، وهي تحمل طفلة صغيرة، مبشرة الجد ابراهام بولادة ابنته.
” ها هو يوم فرح جديد لك يا ابراهام! حفيدة أخرى، يا لها من طفلة جميلة!”

حمل أبراهام الطفلة بيديه. كائن جديد ظهر للوجود. لم تكن تبكي. كانت تتطلع للجد بجمود. عندما قرب وجهه إليها ابتسمت ابتسامة طفولية، إشراقة ملاك. تلمس وجهها ويدها الصغيرة. اقترب سبينوزا من الجد ليتطلع للطفلة، كلاهما كان قريباً منها، يحاولان ملاعبتها.

” ها هي معجزة يا سبينوزا.. معجزة ليست من القوة الهائلة للخيال التي تسكن العقول، بل معجزة حقيقية، تتشكل من تلك الثنائية التي هي الروح والجسد: الجنة ها هنا أمامنا الآن، هل تنكر هذه المعجزة كذلك؟”

سال أبراهام سبينوزا هذا السؤال وهو يعرف رأيه الحاد بالمعجزات. أجاب سبينوزا ضاحكاً
” اعترف بأنك هزمتني هذه المرة.. نعم هذه معجزة، ولادة طفل معجزة إلهية”
” إلهية ؟ أوه .. نعم .. معجزة إلهية! أجمل وأروع المعجزات، تتكرر كل يوم. يراها الناس، ولا يستشعرون تأثيرها إلا إذا سمعوا صرخات الأم، وخروج الطفل من ذلك الرحم، إنسان من إنسان. الفردوس أُنزل إلى الأرض.. ماذا تقترح أن نسمي هذه الطفلة؟”

” مثل الوردة.. حنا”
“حنا!” زفر العجوز الهواء بحزن، ونطق الاسم كما كان شاباً، عندما التقى حنا للمرة الأولى.
” نعم.. هي حنا “!

نُشِرت في فكر و فلسفة, قصة قصيرة | 4 تعليقات

لا تذهب للمقهى وحيدًا

أتشرف بقراءتكم لأحدث المقالات التي نشرتها مؤخراً، ضمن منصة معنى الالكترونية

نُشِرت في مقالات | أضف تعليق

رابطة الشعراء الموتى


أيها القائد! يا قائدي! رحلتنا المرعبة انتهت
نجت السفينة من كل خطر، والجائزة التي سعينا إليها كسبناها،
الميناء قريب .. أسمع الأجراس، والناس منتشون
فيما العيون تتابع السفينة المضطردة، السفينة الجهمة المقتحمة:
لكن يا لقلبي! يا قلبي! يا قلبي
أيتها القطرات الدامية من الأحمر،
حيث يرقد قائدي على السطح،
متهاوياً بارداً وميتاً

ثلاثون سنة مرت على فيلم رابطة الشعراء الموتى، والذي أدى فيه الممثل الراحل روبن ويليامز الدور الرئيسي فيه. حاولت أن أتذكر أحداث الفيلم أو القصة الرئيسية، ولم أجد الذاكرة تسعفني. كلما ما أذكره هو الجرس الشعري الذي أصبح يحمل هوية الفيلم، وهو الشطر الأول من قصيدة والت وايتمان الشهيرة في رثاء ابراهام لنكولن: أيها القائد، يا قائدي. سفينة يقودها قبطان عظيم، عانت من المصاعب والأهوال حتى وصلت إلى غايتها النهاية. عند وصول هذه السفينة إلى شاطئ الأمان، فقدت جزء أساسي من هذه الرحلة وهو قائد السفينة: القبطان الذي قاد دفة السفينة بكل اقتدار، سقط قتيلاً، تناثر دمه على تلك التي كان مستعد لأجلها لأن يدفع كل قطرة من دمه في سبيلها، أي السفينة. عند الوصول للأرض، تٌقرع الأجراس ابتهاجاً بوصول السفينة: جمهرة من الناس تلوح للقائد الذي انتصر في رحلة الأهوال. لكن القبطان القائد لن يجيب. عاطفة الجمهور وبحارة السفينة تُختزل في تلك الكلمة من قصيدة والت وايتمان: يا والدي الغالي!. تحول القائد من رجل مكلف بوظيفة إلى أب! الرجل الذي يتم تكليفه بالقيادة ثم يصفه الشاعر بأنه أب، هذا يعني وجود أشياء أعظم من القيادة حدثت في رحلة السفينة إلى مستقرها الأخير في الميناء. الرمزية هنا جميلة. لا تحتاج لتفسير. السفينة هي الدولة، وقائد السفينة هو رئيس الدولة، والأخطار التي تعرض لها قائد السفينة هي الحرب الأهلية التي كانت ستقسم تلك الدولة إلى دولتين. لم يكن ذلك القبطان الذي وصفه والت ويتمان في قصيدتين بالقائد والأب إلا الرئيس السادس عشر للولايات المتحدة الأمريكية أبراهام لينكولن.

لماذا ارتبط هذا البيت الشهير من القصيدة ببطل الرواية الدكتور كيتنج؟

صدرت قبل أيام ترجمة عربية لرواية الشعراء الموتى لنانسي كليبناوم، من ترجمة الأستاذة أماني لازار، وإصدار دار نشر ترجمان. الرواية مكتوبة بأسلوب مسرحي، بل وأعتقد بأن قابلية الرواية لأن تتحول إلى نص مسرحي ويتم تجسيدها في المسرح في غاية السهولة، فكل مسار الرواية وأحداثها وحواراتها تطفو على السطح. المؤلفة لا تتكلف بالبحدث في أعماق الفكر والحياة الإنسانية والصراعات الوجودية. المسألة لديها تتعلق بأحداث ثورة مصغرة في الحياة المدرسية، أن تطرح فكرة تغيير النمط الدراسي الكلاسيكي إلى نمط آخر مختلف قائم على عيش الحياة وحب تفاصيلها. وكان ميدان ثورتها المصغرة هذه مادة الأدب الإنجليزي.

أستاذ جامعي في الآداب الانجليزية، يعود ليدرس في المدرسة التي قد تخرج منها في مراحل دراسته الأولية. مدرسة قائمة على الانضباط والتقاليد، مكان يحاول إعادة صياغة أفكار الشباب المراهقين، يصقل مواهبهم، ويجعلهم جاهزين للحياة الجامعية ومعترك الحياة. لكن الأستاذ الجديد لا يعتد بالنمط القديم. بل ويرفضه ويلغيه. كمتخصص في الأدب الإنجليزي، ليس مهما أن تفهم ماهية الشعر وعروضه وأساسياته حتى تعرف معنى الشعر. الشعر هو جزء من الحياة البشرية. هل يجب أن تفهم القوانين والعروض والمفاهيم حتى تحب الشعر؟ أن تفهم معنى الجمال والحب، هل هناك أساسيات وقوانين. كل هذه القوانين والاساسيات والمفاهيم تسقط، لأنها تعاش ويتذوقها الكائن البشري. لا يفهم معنى الحب إلا من أحب وتذوق حلاوته ومرارته. والشعر: هل هي كلمات فقط؟ أم أن الشعر موجود في كل شيء؛ في تلك المخلوقات العظيمة التي خلقها الله، في ابتسامة طفل، أثناء الولادة، في رؤية وجه الأب، وعاطفة الأم، في تلك اللحظة الفريدة التي تصرخ فيها من أعماقك، محباً، وعاشقاً.

في تلك اللحظة الفريدة التي مزق فيها الأستاذ الجامعي الصفحات التي تشكل وعي الطلاب حول الشعر، أحدث ثورته الفريدة أمام طلابه، وأرغمهم أن يعيشوا الحياة ويمتصوا عصارتها، أن يفكروا ويتعلموا التفكير، ويجدوا نمطهم الخاص. هذا الفكر الثوري في التفكير منبعه كاهن الغابة ثورو، صاحب العصيان المدني، والذي عاش فترة زمنية من حياته في غابة والدن. كان ثورو يحلم بأنه حين يموت، فإنه لن يندم على دقيقة واحدة عاشها في هذه الحياة، لأنه – على أرض الواقع والحقيقة – عاش حياته، بكل ساعاتها كما يشتهي، وامتص عصارة هذه الحياة بكل تفاصيلها. هناك لحظات خطرة في النمط الذي أحدثه الدكتور كيتنج، وكأنه يدعو طلابه بأن يفكروا مثل الفنانين والأدباء والشخصيات الشهيرة، وقد يتعرضوا للصدمة عندما يكتشفون أنهم لم يصلوا إلى ربع ما وصل إليه هؤلاء. لكن هدفه ألا يصبح طلابه مثل ثورو أو وايتمان أو شيلي، بل أن يفكروا ويعيشوا حياتهم كما يجب: يكافحوا ويتعثروا ويعبروا عن أحلامهم، هكذا فقط.

يمزج الأستاذ الجامعي أفكاره الحديثة بأفعال تنير الطريق لطلابه: من خلال الوقوف والنظر من مكان آخر وزاوية أخرى حتى تستطلع أماكن لا ترى، وأن تراها من منظور مختلف. وكذلك من خلال اكتشاف النمط والايقاع الخاص بك، من خلال المجموع العام للطلاب كوحدة واحدة ومن خلال الطالب ذاته كفرد، يحمل إيقاع ونمط يميزه عن آخر. إن سار ضمن مجموع عام، سيحدث التناسق الطبيعي والايقاع الذي يضبط التحركات والاتجاهات. وإن سار ضمن نمطه الخاص، سيحدث أثراً من خلال ايقاعه وجرسه الموسيقي وتميزه عن الآخرين.

مساحة العمل الروائي تتناوب ما بين الأستاذ والطلاب، والطلاب مع بعضهم البعض. يمطر الأستاذ طلابه بالأفكار والتدريس الغير تقليدي، ويشرح لهم وجهة نظره في هذه الحياة وكيفية تذوق الشعر وتناوله، والهدف الرئيسي له، أن يعيشوا حياتهم. والطلاب مع بعضهم البعض الذي بدأ بعضهم يتبع شغفه في المسرح، والآخر في عشقه وهيامه في حب فتاة، ولكن تبقى لحظاتهم الأجمل عندما يشكلون رابطة شعرية سرية – وكأنها منظمة سرية هدفها قلب العالم رأساً على عقب – لكن يبقى هدفهم أن يتحدثوا مع بعضهم البعض بتناول كلمات الشعراء الموتى والشعراء الآخرين والكلمات الجميلة والمقاطع الغزلية العادية التي يكتبونها، والذكريات التي تشكل وجهة نظرهم في هذه الحياة.

أي فكرة جديدة مهيأة لأن تجد لها بيئة خصبة للنمو، لكن على هذه الفكرة الجديدة أن تخوض صراعاً مريراً ضد الأفكار القديمة السائدة. ليس لكي تنتشر وتستمر، بل للسماح لها بالوجود أولاً وتقبل هذه الفكرة ضمن الوعي العام ثم النمو. فكيف لفكرة جديدة تعيد تشكيل العلوم الإنسانية بأن تنهض وتسقط المدارس القديمة التي لها جذور راسخة في الوجدان العام المدرسي، وضمن الأطر والتقاليد التي مر من خلالها أجيال عديدة. أفضل من يشرح شخصية الأستاذ الجامعي الدكتور كيتنج هو الممثل روبن ويليامز نفسه في فيلم غود ويل هانتينغ، وتحديد مشهد البحيرة البديع، حين يتكلم الطبيب النفسي روبن ويليامز للطفل المراهق عن شعر شكسبير الذي بإمكانه اختزال كلمات العشق والحب في كلمات وسطور قليلة، لكن أي كلمات حب في هذه الحياة تستطيع أن تواجه رجل عاشق يشاهد المرأة التي يحب، وسعيد بتلك اللحظة التي يرى فيها مبسمها. وعن تلك اللوحة الفنية البديعة التي أبدعها مايكل انجلو في كنيسة سيستينا، يستطيع أي شخص أن يسرد تفاصيلها وتاريخها والأزمة التي عصفت بالرسام حتى أبدع في عمله الفني. لكن أي حديث لا يبدو كافياً مقابل أن يرفع أحدهم بصره تجاه هذه القبة، يتتبع تفاصيلها من بداية مدخل الكنيسة إلى نهايتها، متأملاً ذلك الرواق الأحمر وتلك الأيادي الممتدة في قبة الكنيسة. روبن ويليامز في قود يل هو نفسه الدكتور الجامعي الدكتور كيتنج: لا يهتم بالنموذج والتقاليد والأطر الموضوعة التي تحد من أطر التفكير. بل أن ينطلق أحدهم لأن يجد مساحة في هذا العالم، وإن كانت هناك قصيدة أو رسمة أو عمل فني أو أي شيء آخر جميل في هذه الحياة، فيسعى وهو يبني هذا الجمال ويظهره للعالم، أن يكون خالداً.

الأعمال الأدبية عن الجامعة أو المدرسة لا تحمل نمطا واحداً. غالباً ما يكون التركيز على المحيط الجامعي كنظام وقيم اجتماعية ضمن عمل روائي يحمل نقداً تجاه النظام الاقتصادي والسياسي القائم. وإن كان الروائي مهتم بحالة فكرية وسيرة حياة بطل واحد، فهو ينطبق على رائعة جون ويليامز الشهيرة : ستونر. هل هناك عمل عن الأفراد وما يتعلمونه في هذه الأمكنة، ويحمل أطر حديثة، أو ثورة في التفكير وطريقة التدريس؟ لم يمر علي مثل هذا إلا في عمل نانسي في رواية رابطة الشعراء الموتى. أما في الأعمال السينمائية، فغالباً ما يكون الأثر الفني متعلق بالإلهام: مساعدة الطلاب في إيجاد أثر داخلي يساعدهم على الانطلاق في الحياة العلمية أو محاولة إصلاح بعض مشاكل الحياة الاجتاعية من خلال المحيط المدرسي والجامعي. لكن رابطة الشعراء الموتى تمتاز بخاصية تميزها عن الأعمال الأخرى: اكتشف نفسك وحياتك وأحدث الأثر الذي يجب أن يكون خالداً.

أيها القائد! يا قائدي!

أعود للإجابة عن السؤال في مقدمة هذا المقال: لماذا ارتبط هذا البيت الشهير من رثائية ابراهام لنكولن لوالت وايتمان ببطل الرواية الدكتور كيتنج؟ ولماذا يفضل أن ينادى بهذا الكلمات من القصيدة؟
كان يؤمن بأنه لا يختلف عن ابراهام لنكولن في شيء، فهو يقدم فكرة، مؤمن بها ويدافع عنها، ولم تكن تلك الفكرة مقبولة على الاطلاق، ولذلك، بمجرد أن أعلن عن أفكاره ورؤاه ضمن التقاليد الجامعية الثابتة، أيقن أنه سيطرد ويحارب، ويصبح شهيداً، مثل لنكولن.

نُشِرت في قصائد, أدب أمريكي, سينمائيات | أضف تعليق