نيرودا: أعترف بأني قد عشت


المطر هو الشخصية الوحيدة التي لا تنسى في مسيرة الشاعر التشيلي الكبير بابلو نيرودا. و تراقص الكلمات هي من أجبرت ذلك الذي أخذ اسم لا يعرف من هو صاحبه الأصلي ليغني عبر الكون : تلك الكلمة التي كانت تحلق وتهبط, يهيم بها, يذعن لها, يتابعها, يلثمها, يذيبها, مغرم بها .. كل كلمة مباغتة ينتظرها في نهم, يترصدها بشغف. إنها لزبد, معدن, لندى, يلاحق كلمة, يطارد أخرى, يريد أن يحضنها في شعره, لكنها تطير, يقتنص إحداها, فيحس بها شفافة, رجراجة, كالثمرة, كحبة الزيتون .. تتدلى من القصيدة كما تتدلى عناقيد الرواسب من سقف مغارة.

ولكن تراقص الكلمة يتوقف ليشهد الولادة الثانية. في الربع الثاني من القرن المنصرم يدعو أحد موظفي السيرك بأسبانيا نيرودا لحضور إحدى تلك الاحتفالات. كان سيصطحب لوركا معه. اتفقوا على اللقاء في ساعة محددة. تخلف لوركا عن الموعد. كان قد ذهب ليلاقي حتفه. كان لديه موعد مع القتلة والسفاحين. هكذا بدأت حرب أسبانيا التي غيرت شعر نيرودا, بدأت باختفاء شاعر: ” وأي شاعر, أبداً لم أشاهد شاعراً مثله اجتمعت فيه اللطافة والعبقرية, القلب المجنح والشلال الشفاف. لقد كان فيدريكو لوركا العبقري المسرف في وحيه وإلهامه, بؤرة الفرح التي تشع الكوكب بسعادة الحياة, كان نابغة, كونياً ريفياً, موسيقياً فذاً, ممثلاً رائعاً, مؤمنا بالخرافات, لامعاً ونبيلاً, كان خلاصة إعمار أسبانيا وعهودها, وصفوة الازدهار الشعبي, نتاجاً عربياً – أندلسياً ينير و يفوح مثل أيكة ياسمين على مسرح أسبانيا, كان كل هذا, يا ويلتي .. لقد اختفى ذلك المسرح, فآواه وألف آه .. ”


لو أمكنني أن أبكيَ خوفاً في منزلٍ مهجور
لو أمكنني أن أقتلعَ عينيّ وازدرهما
لفعلتُ ذلكَ من أجلِ صوتِكَ المُعوِلِ كشجرةِ برتقالٍ
و لأجلِ شِعرِكَ الذي يسري هادراً.

فلأجلِكَ صبغوا المستشفياتِ بزرقةٍ
و المدارسُ، و السواحلُ البحريةُ تنمو
و الملائكةُ تحشو جراحَها ريشاً
و بتولُ السمكِ يتغطى بحراشفِه
و القنافذُ البحريةُ تحلقُُ نحوَ السماءِ
لأجلِكَ محلاتُ الخياطةِ بأقمشتِها السوداء الرقيقةِ
سوفَ تمتلئُ ملاعقَ، تمتلئُ دماءً
و لسوفَ يبتلعونَ شرائطهم الحمراءَ المُمزقة،
و يقتلونَ أنفسَهم بالقُبَل
و يتشحونَ بعدَ ذلكَ بالبياض.

عندما تحلقُ متنكراً كشجرةِ خوخٍ
عندما تضحكُ ضحكةَ إعصارٍ من الأرز
عندما تخفقُ بشرايينكَ و أسنانِكَ كي تغني
بحنجرتِكَ و أنامِلك
أستطيعُ أن أموتَ لأجلِ الحلاوةِ التي تتضوعُ منكَ
أستطيعُ أن أموتَ لأجلِ البحيراتِ القُرمزيةِ
تلكَ التي تقطنُها منتصفَ الخريف
معَ جوادِكَ الساقطِ و إلهِكَ الجريحِ
أستطيعُ أن أموتَ لأجلِ المقابرِ التي
تمرُ ليلاً كأنهار رمادٍ
بمياههِا و شواهدِ قبورِها
ما بينَ الأجراسِ المخنوقة:
أنهارٌ تمتلئُ كغرفِ مشفىً
بالجنودِ المرضى، يفيضونَ فجأةً
باتجاهِ الموتِ، مع الأرقامِ الرخاميةِ
و الياسمينِ المتعفنِ، و مصابيحِ الزيت:
أستطيعُ أن أموتَ من أجلَ أن أراقبكَ ليلاً
و أنتَ تتابعُ الصلبانَ الغارقةَ و هيَ تمرُ
تحتَ قدميكَ، فتبكي،
لأجلِ أنّكَ تبكيَ أمامَ نهرِ الموتِ
مهجوراً، جريحاً
تبكي كلَ البكاءِ، و تمتلئُ عيناكَ
بدموعٍ، بدموعِ الدموع.

في الليل، حينَ أمشي وحيداً
أستطيعُ أن أجمعَ ما يمتدُ من نسيانٍ و دُخانٍ و ظلال
فوقَ سككِ الحديدِ و السفنِ البخاريةِ
أجمعُها في قمعٍ أسودَ
ماضغاً الرمادَ
سوفَ أفعلُ ذلكَ من أجلِ الشجرةِ التي تكبرُ فيها
من أجلِ أعشاشِ المياهِ الذهبيةِ التي تجمعُها
و من أجلِ الشبكةِ التي تغطي عظامَكَ
مخبرةً إياكَ عن سرِّ الليل. *

قرأت مذكرات نيرودا قبل أيام. كان كل تفكيري منصباً حول النشيد العام, أضخم أعمال نيرودا الشعرية وأشهرها على الإطلاق. قبل أن أتحدث عن النشيد العام أريد أن أتحدث عن المكون الأساسي للنشيد العام. هذا المكون موجود على اتساع رقة أمريكا اللاتينية: إنها المعاناة. معاناة الإنسان الفقير المعدوم. لم يكن الانتساب للحزب الشيوعي من أجل العقيدة الفكرية ذاتها, بل بسبب العمال الذي يقاسون العذاب في الصحراء التشيلية الرهيبة, في الهروب عبر جمال الأنديز, تحت المطر المنهمر منذ شهور. في نهاية مذكرات نيرودا قرأت جملة لخصت النشيد العام بأكمله. تلك الجملة كان يعني فيها مباشرة الشعب التشيلي حين قال : كان شعبي, الشعب التشيلي أكثر شعب تعرض للغدر في هذا الزمن!. كان يقصد بعبارته تلك الانقلاب العسكري الذي أطاح بحكومة سلفادور الليندي الشرعية ومقتله, وسقوط تشيلي تحت رحمة سلطة الديكتاتور الشهير أوغستو بينوشية. لا أنسى كذلك عبارة تصلح مقدمة للنشيد العام, في إحدى حوارات ماركيز الصحفية قال قولاً لفت نظري, قال: أسمع كثيراً هذا القول: يقال بأن سكان أمريكا اللاتينية فرحون ومرحون ومنفتحون على العالم. والحقيقة أننا الأكثر انغلاقاً, والأكثر حزناً بين كل الشعوب. ما الذي يجعل مثل هذه الشعوب الشهيرة بمرحها الأكثر حزناً وتعاسة على وجه الأرض. لم تنعم بالاستقرار طوال القرن الماضي, كانت الانقلابات تنتقل من الجنوب إلى الشمال بلمح البصر, كانت الشركات المتعددة الجنسيات تضغط على رجال السلطة العسكرية خوفاً من تأميم مصالحها, كان العمال والمواطن المنزوي في إحدى ضواحي تلك البلدان هو الأكثر تعاسة و حزناً جراء ذلك.

في عمله الضخم النشيد العام يرجع بابلو نيرودا إلى الوراء, إلى ما قبل الغزو الأسباني, حتى يصل إلى الطبيعة ذاتها. هو بلا شك محاولة لكتابة التاريخ على اختلاف مشاربها: التاريخ, الجغرافيا, الفلكلور, مملكة النباتات, الطبيعة, الانثروبولوجيا. كانت محاولة لإعطاء سكان تلك المنطقة إنجيل خاص بهم, يحكي حكاية أراضيهم من الطبيعة حتى القرن العشرين, تاريخ طويل من الهجرة والإستطيان والغزو والتحرير, وللأرض والإنسان. ذلك هو النشيد العام لنيرودا. كان الثائر الشهير جيفارا يقرأ على رجاله ليلاً بعض أناشيد النشيد العام, وعند مقتله, في جبال بوليفيا, وجد في حزمة مقتنياته كتاب بابلو نيرودا النشيد العام.

في النشيد الأول المصباح في الأرض, يبدأ الكتاب بابتهال إلى عالم ما قبل الفتح الأسباني, أرض التي بلا أسماء, بلا أمريكا . إلى الأصول الجيولوجية والغابات التي تسكنها العصافير. إلى أصوات الماء التي سميت فيما بعد أورنيوكو و الأمازون و بيو بيو. وفي نهاية هذا الفصل فقط تبدأ القبائل بسكنى الأرض. فتأتي قبائل الأزتيك والكارييب والمايا والإنكا.

في النشيد الثاني مرتفعات ماتشو بيتشو, وهو أقوى الأناشيد وأجملها في هذا العمل الضخم. تظهر عظمة هذا النشيد في التدرج الدرامي المذهل الذي يعطي القصيدة تطورها المتصاعد. كانت الأسئلة وجودية وهائلة, هناك سؤال دائماً ما يتكرر في هذا النشيد: من هو الإنسان؟ و دعوة للاستيقاظ كذلك وإعادة إحياء هذه الحضارة المندثرة بفعل الغزو الأسباني الذي أباد مكونات هذه الحضارة بلمح البصر.

في النشيد الثالث الغزاة, هو إدانة عنيفة للهمجية التي احتفل بها الغزاة الأسبان, ولممارسات السلب والدناءة التي لجأ إليها قادتهم العسكريون, ولحماقة رجال الدين وتعصبهم.

في النشيد الرابع المحررون , يعتبر هذا الفصل أطول فصول النشيد العام وأكثرها إبرازاً للتاريخ. ابتداءً من زعماء الهنود الثوار الذين قاوموا الغزو الأسباني مثل كواوتيموك و لاوارو و وتوباك الذين تصدوا للغزو الأسباني في القرن السادس عشر. وحتى المحاربين والقادة العماليين – زاباتا, ساندينو, ريكابارين, برستيس – مروراً بمن يطلق عليه آباء الوطن, أبطال حروب الاستقلال مثل ميراندا وبوليفار وسان مارتين, يقوم نيرودا بتمجيد الدعوات والحركات التحررية في أمريكا خلال أربعمائة سنة. كما يتعرض لقدرها المحكوم بالاستلاب, متابعاً تبدلات الأسياد. هناك قصص في هذا النشيد تظهر القوة التي كان عليها الهنود الحمر في مواجهة الغزاة الأسبان. مثل كواوتيموك آخر ملوك الأستيك. تعرض للهزيمة في مواجهة الأسبان ووقع في الأسر. تعرض لتعذيب وحشي طيلة ثلاث سنوات لأنه رفض الاعتراف بمخبأ الكنوز الملكية. قاوم التعذيب بالنار بصمود عجيب, ثم أعدم. كنت سأفصل حياة أحد هؤلاء الثوار وذكر النشيد الخاص به في النشيد العام. ولكن, هناك اسم من ضمن قائمة المحررون لم يكن من سكان أمريكا اللاتينية, ويعتبر من أكبر محرري الهنود الحمر من القتل والتعذيب الذي طالهم تحت سيوف الغزاة الأسبان. إنه المطران الأسباني فراي بارتولومي دي لاس كازاس. ما يجعل الأمر ممتعاً أن هذا القس المسيحي صدر له كتاب وجدته في مكتبتي بعنوان المسيحية والسيف: وثائق إبادة هنود القارة الأمريكية على أيدي المسيحيين الأسبان, رواية شاهد عيان.

* هذه القصيدة لبابلو نيرودا موجودة في كتاب نيرودا Residence On Earth تحت عنوان Ode to Federico Garcia Lorca. قام الصديق العزيز الدكتور عدي الحربش بترجمتها ونشرها قبل سنة من الآن.

22/6/2009

هذا المنشور نشر في أدب أمريكا اللاتينية. حفظ الرابط الثابت.

أضف تعليق